الأربعاء، 10 أبريل 2013

بائعة الخضار (1)




بجوار مكتب البريد وشركة الاتصالات, تجلس سيده عجوز تجاوزت الستين بقليل, ذات وجه مستدير, به تجاعيد قليله حول الفم واسفل العينين الخضراوين, بيضاء البشره, ترتدى جلباب فلاحى واسع, وتغطى رأسها بشال اسود طويل يخفى معظم وجهها, تسمى (ام ابراهيم) تبيع الخضار, وترص بضاعتها على ظهر  اقفاص فى نظام, الخضار المجهز للتنظيف فى جانب, وباقى الخضار فى الجانب الاخر, وانواع من الفاكهة, ورغم وجودها على الرصيف فى الشارع, لكنها تحافظ على نظافة الخضار والمكان, وتلبى كل طلبات زبائنها, مهما كلفها ذلك من مشقة وتعب, وتتعامل بحب واهتمام مع الجميع...
 تخرج فى الصباح الباكر, تنظف المكان وترص بضاعتها, وتنتظر زبائنها واغلبهم من شركة الاتصالات, وزوار البريد, والعمارات المجاورة, وعند خروج الموظفين يتوجهون اليها, (مدام سعاد): حضرتى لى البتنجان والفلفل يا (ام ابراهيم) اوعى تكونى نسيتى تأورى الكوسة, لحسن (محمد) ابنى  بيحبها اوى؟
تجيب (ام ابراهيم): ايوة يا حبيبتى كل حاجة جاهزة حتى الخضره... ألف هنا.
وبعدها (الاستاذة زينب) شئون قانونية: وانا فين شربة الخضار والكرفس؟
تجيبها: كل حاجة جاهزة وكترت لك الكرفس زى ما قلتى.
ويحضر (الاستاذ مايكل) صراف البريد: كيس ملوخيه, وكيس توم مفصص, لو سمحتى يا (ام ابراهيم)؟
 وكلا يأخذ طلبه بعد ان يشكرها, ويوصيها بان تحضر له غدا شيئا اخر...
وبجانب (ام ابراهيم), (عم عبده) الارزقى رجل فى الستين من عمره, يقف على الرصيف لعمل الشاى, يدارى الوابور بصفيحة قديمة وعدة الشاى بجانبه, وأول كوب شاى ل(ام ابراهيم) التى هى بدورها تتقاسم معه قطعة الخبز المغمس بالجبنه البيضاء....
وايضا (الاستاذ خليل) فى الاربعين من عمره, وورث المحل الصغير عن ابيه, بها ماكينة تصوير مستندات, وثلاجة مشروبات ساقعة, وبقالة بسكويت وشبيسى....
وبجوارهم مكوجى فى مدخل عمارة, يفرش طاولة يكوى عليها للزبائن ........    وكذلك فترينة سندوتشات كبده ومخ, يعمل عليها شاب صغير, اسمه (ياسر) اسمر كثيف الشعر, يرتدى قميص وبنطال, ويستعير من (ام ابراهيم) بصلتين على قرنين فلفل حامى, ويردهم لها فى سندويتش معمر كبده, وتعطيه المشورة فى طعمها.... وكلا منهم ينتظر رزقه من الرزاق فى شوق.....
وبعد ان ينتهى اليوم, ويحل الظلام, يلملم كلا منهم بضاعته, ليخبئها فى الفيلا المهجورة, التى تقع خلف مجلس (ام ابراهيم), ويداريها بالاشجار, اما (ام ابراهيم) تقطن فى الكوخ الخشبى الموجود بحديقة الفيلا المهجورة, بعد ان تغلق الباب الحديدى بالسلاسل والقفل الكبير, وتنام على صندوق خشبى بداخل الكوخ, ومعها بعض الاغراض البسيطة, التى تحتاج اليها من طاولة صغيرة تأكل عليها, وبه حمام ضيق تقضى فيه حاجتها, وبه نافذة تطل على الفيلا, لا تغلقها الا عند نومها, ولا تغلق عينيها كل يوم, الا بعد ان تتذكر ابنها (ابراهيم) وهو صغير, وكانت تصتحبه معها وهى تحضر الخضار, ويساعدها فى رص الخضار, وكان كل من يراه يعتقد انه ابن اصحاب الفيلا من شدة جماله, فكانت تتباهى به وبذكائه, واصرت ان تعلمه حتى لا ينقصه شئ.... تبعد بالذاكرة لتسمع ضحكاته وشقاوته, حتى انه كانت تنادى عليه ابنة صاحب الفيلا (سوزى): (ابراهيم) تعالى إلعب معايا..... وتضحك وترن ضحكاتهما فى ارجاء الفيلا, وكأنهما ملائكة من السماء ........ تتذكر هذه الضحكات, وتبكى وتستغفر, وتدعى ربها, وتغمض عينيها وتستسلم  للنوم...        
(ام ابراهيم) تقطن بهذ الكوخ الخشبى من سنين, وكل من حولها لم يعرف عنها الا انها السيدة الطيبة التى تبيع الخضار لرواد المنطقة, ولم يروها تخرج خارج هذه المنطقة يوما ما....
وفى يوم, استيقظت فيه كعادتها مبكرا مع اذان الفجر, وتسجد الى ربها, وتدعو دعاء متكرر ان يقدرها على الوفاء بالعهد...
وتبدأ فى تحضير الخضار وتنتظر حضور السيارة التى توزع الخضار على البائعين وتأخذ طلبها ........وعندما خرجت من الكوخ وهى محملة ببضاعتها المبيتة من الامس, سمعت صوت يبكى داخل الفيلا المهجورة .........  فتوجهت حذره, وعلى اطراف قدميها, وجدت سيدة عجوز فى السبعين من عمرها, محنى ظهرها وترتدى ملابس سوداء, وترتكز على عكاز, وبجانبها شاب يرتدى بدلة السائق يمسك بيدها من الجانب الاخر .......
فتوجهت لها (ام ابراهيم) بالسؤال: اقدر اساعدك بحاجة يا هانم؟
تدير الهانم برأسها وتجيبها: اه ......مش معقول (ام ابراهيم) ......انتى تانى؟
تجيبها: ايوه يا(ثريا هانم) ...............  (ام ابراهيم) .......
ترد: انتى طلعتيلى من فين؟ دورت عليكى فى كل مكان, حتى بيتك بعتيه, وهربتى بالعيال ......هأمرهم يقبضوا عليكى .......اه ويحطوكى فى السجن!!!
تجيبها (ام ابراهيم): الزمن غير كل الناس ...واللى حصل يهد جبال, وانتى لسه متغيرتيش...اؤمريهم يحطونى فى السجن ....بس بتهمة ايه المرة دى؟!!
وتدير وجهها (ام ابراهيم) وتنوى الانصراف, فتثور فى وجهها (ثريا هانم): استنى خلاص مش بتخافى........قلت لك استنى  مش مصدقة انى هأذيكى!!!
تجيبها (ام ابراهيم) وهى تدير لها ظهرها: اعملى كل اللى عوزاه, فعلا دلوقتى مش بخاف زى الاول, الله يكون فى عونك .........وبعد ان تطلق تنهيده تنظر لها وتقول: بعد ما راح الغالين, مش بخاف الا من اللى خلقنى.....
وذهبت (ام ابراهيم) من امامها وهى تردد: الله يكفى العيال شركم .......
واخذت (ثريا هانم) تتوعد بأذيتها وتحلف بانها لن تترك (ام ابراهيم) تعيش على وجه الارض.
وتجلس (ام ابراهيم) فى مكانها المعتاد, وتنظر على (ثريا هانم) وهى تسير على العكاز, الى ان تركب سيارتها وتنصرف...
ويبدأ الارزقيه يحضرون وتجهيز بضاعتهم, وكل شئ يسير كالمعتاد, الا (ام ابرهيم) التى تذكرت الماضى, ودموعها تسيل على خديها...
تذكرت ابنها الوحيد الذى اصبح شاب طويل القامة, قوى البنيان, ابيض البشرة, عيناه خضراوين مثل امه, كانت تقرأ المعوذات كلما نظرت اليه...
وكانت فرحتها تكتمل كلما وجدته ينظر الى حبه الكبير (سوزى) ابنة الاكابر, وهى الاخرى تبادله هذا الحب, ولم يخطر ببالها ان هذا الحب سيكون سببا فى نهايته!!!
عندما علمت عائلة (سوزى) بهذا الحب الذى نما بين الشاب وابنتهم, اللذين كانا يشبهان بعضهما كأنهما خُلقا من اجل بعضهما, بدأوا فى ارسال بلطجية ل(ابراهيم) يضربوه ويهددوه بالقتل, وكان صيتهم عالى فى منعه من تعيينه معيد, رغم حصوله على اعلى تقدير بين اقرانه بدون اسباب, بعد ان حاول معرفة السبب قال له معيد: لما تحب حب على قدك, ومتبصش لاسيادك!!!
وتذكرت كيف آذوها, وكلما فرشت بضاعتها من الخضار يحضر لها بلطجى من اتباعهم ويلقى بها الى الشارع  ......وكلما تحدثت معهم (سوزى) يبعدوها عن (ابراهيم) بفرض حراس ليل نهار, حتى وصل بهم الامر الى تقييدها, وغلق باب حجرتها عليها!!!
حتى تمكنت من الهرب وذهبت الى بيت (ابراهيم): لازم نتجوز يا(ابراهيم), وباسرع ما يمكن!!!
حاول (ابراهيم) ان يثنيها عن فكرة الزواج السرى, ولكن دون فائدة...
وتزوجا وهربا من بلد الى بلد, كلما عرفت العائلة مكانهما يسرعا بتغييره, حتى فكرت عائلة (سوزى) فى فكرة شيطانية, بأن يوصى بالقبض على (ام ابراهيم) وتلفيق لها تهمة, ويعلنوها فى اجهزة الاعلام, حتى يعلم (ابراهيم) ويظهر ونجحت الفكرة ..............وظهر (ابراهيم) واتجه مباشرة الى قسم الشرطة, ففوجئ ببلاغ من عائلة (سوزى) يتهموه بخطفها وارغامها على الزواج منه, وتقدم والد (سوزى) من (ابراهيم) وهمس فى اذنيه وقال له: طلقها وقولى عنوانها, وانا اخلى سبيلك, واديك مبلغ انت وامك تروحوا فى اى مكان غير هنا .........صدقنى لو ركبت دماغك هاخليك تندم عمرك كله!!!
رد (ابراهيم) بنفس الهمس: اطلقها ازاى؟ وهى مراتى وكل حياتى, وكمان حامل فى توأم بنت وولد, وبعد شهر هاتولد ......لويرضيك انك تحرمنى من عمرى, انا ميرضنيش احرمك من ولاد بنتك!!!
رد والد (سوزى) فى عصبية: يا خسيس ........يا ندل لازم اموتك واخلص من نسبك الزفت ده ..........
فالتف الضباط حول والد (سوزى) وهم يقولون: متعصبش نفسك يا باشا وسيب الامر علينا!!!
وهمس والد (سوزى) فى اذن الضابط: بس قبل ما تعملوا فيه حاجة, خليه يعترف بمكان بنتى الاول!!!
يرد الضابط: اطمن يا باشا ........اقل من 24 ساعة وتكون بنتك عندك...
وانصرف والد (سوزى) وهو يتوعد (ابراهيم) وامه بالتنكيل بهم!!!
ونادى الضابط على (ام ابراهيم) وهو يقول لها: هاسيبك مع ابنك شوية, تعرفى عنوان بنت الباشا وتقولى لنا والا .........انتم عارفين.
جلست (ام ابراهيم) بجانب ابنها واخذته فى حضنها, وعرفت مكان (سوزى) ولكن وعدت ابنها: اوعدينى يا امى متعرفهمش عنوانها مهما حصل ........احلفى برحمة ابويا ..........ولو حصل لى حاجة, تربى اولادى لغاية ما يوصلوا لبر الامان...
ردت امه: اوعدك يا ابنى  .......وربنا مايورينى فيك مكروه ابدا...
وحضر الضابط: ها يا(ام ابراهيم) ابنك حط عقله فى راسه, وقالك على مكان بنت الباشا؟
(ام ابراهيم): ابدا يا باشا ماقلش حاجه .........وبعدين ياابنى لو حد عمل كده معاك, كنت هتعمل زى ابنى وتدارى على مراتك ..........ياابنى وحياة ولادك تسيبوه يروح لمراته, لحسن على ولادة وحرام تقعد لوحدها.
رد الضابط: روَحى يا(ام ابراهيم) دلوقتى .........واحنا هنحاول نصالحه على الباشا ويحصلك.
انصرفت (ام ابراهيم) الى بيتها, وما ان فتحت باب بيتها, حتى وجدت اثنين من الرجال الاقوياء, غلاظ الوجه والبنيان, امسكا بها من الجانبين واصبحت وجها لوجه امام (ثريا هانم) والدة (سوزى) وهى فى عنفوانها وجبروتها, وكانت تعرف (ام ابراهيم) ان هذه السيدة لا تنظر لهم على انهم بشر مثلها, ولكن هم اقل منها بكثير, ففزعت من رؤيتهم وقالت لها: ليه كده يا(ثريا هانم)........الاولاد بيحبوا بعض وعايشين مع بعض فى سعاده وهنا ............وكلها ايام هتكونى جده يتنططوا حواليكم ........ارجوكى دى بنتك الوحيده متحرمهاش من حنانك؟
ترد فى كبرياء: اخرسى ....مش ناقصنا الا اولاد جرابيع, تخلفهم بنتى انا بنت الحسب والنسب, من ابنك انتى يا بتاعة الخضار .....انطقى فين بنتى اللى خطفها ابنك, والا هاموتهولك واخليكى تندمى العمر كله عليه؟
ترد (ام ابراهيم) فى فزع وهى تخبط على صدرها: يا ساتر يا رب ......ليه كده دا احنا كلنا من اب واحد وام واحده وهنقابل كلنا رب واحد؟!!
ترد (ثريا هانم) على كلام (ام ابراهيم) باشارة للرجلين الغلاظ بضربها, وبالفعل بدأوا ضربها, حتى تجمع الجيران وحاولوا ان يخلصوا (ام ابراهيم) من ايديهما, فتركوها وأمرتهما (ثريا هانم) ان يسبقاها الى السيارة, وهى تتوعد (ام ابراهيم) بانها لن تتركها هى وابنها, الا بعدما يعيدوا لها ابنتها (سوزى)!!!
...........................يتبع

هناك 4 تعليقات:

  1. قصة أخرى مشوقة تنسجين خيوطك الابداعية فى سطور ما اروعها
    من الواقع وببساطة وسلاسة شاهدت شخوصات قصتك وهى تتحدث وتتحرك
    وفى انتظار الجزء التالى
    تحياتى يا مبدعة

    ردحذف
    الردود
    1. استاذى الكبير عادل
      تحيه طيبه ومعطره بذكر الله سعادتى لاتوصف عندما اقراء تشجيعك لى
      اتمنى دائما ان ما اكتبه ينال رضاكم شكرا واتمنى لك الصحه والعافيه

      حذف
  2. في انتظار يتبع ...
    يا من تنسجين قصصك بخيوط من شغف .

    ردحذف
    الردود
    1. اهلا ومرحبا بالعزيزه الغاليه حنين
      شكرا لك صديقتى على تعليقك الرقيق لكى من التقدير والاحترام

      حذف